ايامنا الحلوة

نعيب زماننا والعيب فينا*** وما لزماننا عيب سوانا*** فدنيانا التصنع و الترائى *** ونحن به نخادع من يرانا*** وليس الذئب يأكل لحم ذئب *** ويأكل بعضنا بعضا عيانا

الخميس، 23 أكتوبر 2008

حلم توأمتى


ايقظنى جرس الباب، وانبئتنى طرقات الاكف الصغيرة عمن بالخارج، انها توأمتى شيرين وابنتها ريم، كم افتقد تلك الصغيرة، رغم انى لم اتركها الا منذ ساعات قليلة، فقد حضرنا معا زفاف ابنه عمى الليلة الماضية، ربما لذلك تأخرت فى الاستيقاظ، فالنهار قد انتصف.

فتحت الباب وحملت ريم التى تعلقت برقبتى، ولم تترك لى فرصة الترحيب بتوأمتى كما يجب- فهى ترى ان كونها توأمتى لا يعفينى من الترحيب بها كضيفة.
لم تنفك ايد ريم من حول رقبتى الا بعد ان كنت قد جلست على احد مقاعد الصالون، فغرف المعيشة وما شابه لا تصلح لاستقبال الضيوف- حتى وان كانوا توائم- هكذا ترى شيرين.

تعجبت من هذه الزيارة الصباحية المبكرة بعض الشئ لاسيما وقد كنا معا الى ما بعد منتصف الليل، ولكن لم تترك لى شيرين مجالا للتخمين، فقد بادرتنى بقولها انها قد جاءت الآن مسرعة لتقص على حلما رأته الليلة الماضية، علنا نصل الى تفسيره. بالطبع سألتها لماذا لم تحكيه لوالدتنا، فشيرين تقتنع بتفسيراتها، وكم من المرات رأيتهما يقضيان الساعات ما بين كتابى ابن سيرين ومختار الصحاح، فالمعجم ضرورى، حيث ان اغلب الالفاظ الموجود فى كتاب تفسير الاحلام لابن سيرين "عربى قديم"، وتحتاج الى معجم، او كما تقول شيرين "dictionary" "عربى- عربى".

المهم، ردت شيرين بانه لم يفوتها ذلك، واتصلت بالفعل بوالدتنا لتحكى لها الحلم، ولكنها رفضت سماعه عندما عرفت انه مقبض، وليس مفرح، وذكرتها بوصية ابن سيرين وكبار المفسرين بعدم قص الرؤيا المقبضة حتى لا تتحقق.

رغم ايمانى بالرؤيا، وبانها كثيرا ما تكون بشاره او تنبيهاً من الرحمن، الا اننى ادرك ايضاً ان كثير ما نراه فى نومنا لا يعد وان يكون بقايا للاحداث اليومية، رغبات مكبوتة، خلافات لم تسو، تانيب ضمير، وما شابه. ولكن فى كل مرة كنت ادلى بهذا الرأى كانت امى وشيرين توأمتى يعترضان بشدة، وتؤكد كل منهما ان ما رأته هو رؤيا مكتملة الجوانب والاركان والشروط، وبها تحذيرات واشارات وبشارات، فاتركهما مع ابن سيرين ومختار الصحاح.

اليوم كانت حالة شيرين تحول بينى وبين البوح برأى الذى طالما كررته على مسامعها من قبل، كانت قلقة، ووجهها شاحب، ومضطربة، وقد انتقل الى القلق بعدما اخبرتنى انها قد استيقطت وهى تصرخ من هول ما رأت فى منامها،فقد رأت ريم ابنتها تصرخ.
فى محاولة منى لتهدئة روعها بدأت فى ترجمة المفردات وذكرتها بان "البنت" فى الحلم "دنيا"، ولكنى لم افلح، فقد بدى واضحاً ان قلق شيرين يتمحور حول تفسير "السلم"، وبخبرتى المتواضعة فى التفسيراخبرتها ان صعود السلم هو صعود فى الحياة و"هبوطه لا خير فيه" كما يقول كبار المفسرين. ولكنها فاجأتنى -و الحقيقة كتمت ضحكى- عندما سألت عن تفسير "مسح السلم" اى تنظيفه بالماء والصابون. لم تكن حالة شيرين تسمح بالفكاهة- فضلاً كونها هى نفسها لا تسمح بالفكاهة حتى فى المواسم والاعياد.

تنبهت بعد مجيئها بعشر دقائق اننى لم اقدم لها شيئا- ولو تطور الامر ومرت ربع الساعة سيعد ذلك من وجهة نظر شيرين استهزاء بها، وعدم تقدير للمجهود الذى بذلته فى انتقالها من شقتها فى الدور الثانى الى شقتى فى الدور الثالث- انزلت ريم الى الارض، وانتفضت واقفة اسألها- بمنتهى الذوق الرسمى- اتفضل الشاى ام القهوة، وهل احضر لريم لبناً ام شئ اخر. تلقيت الطلبات وانطلقت الى المطبخ، وضعت الماء على النار وكذلك اللبن، وبدأت فى اخراج انواع الجبن المتوفرة لدينا من الثلاجة ووضعها على صينية كبيرة، وكذلك البيض المسلوق، ولم انسى ان ادفء البيض بوضعه فى قليل من الماء الساخن، فشيرين لا تاكله باردًا، ولم انسى الفاكهة، وان كنت لم اجد الا التفاح، فاخذت ادعو الله الا ترى توأمتى فى ذلك تقصيرًا او عدم اهتمام.

وبينما اربت الصينية، وجدت شيرين وقد تركت الصالون وجاءت الى المطبخ على غير عادتها، وقفت عند باب المطبخ مؤكدة ان الافطار والشاى والقهوة وكل ذلك ليس هامًا الآن، المهم تفسير "الرؤيا"، لقد قررت شيرين انها "رؤيا" ومن ثم وجب التفسير.
وبعد ان اقسمت لها اننى لن اخبر والدتنا بانها قد حكت "الرؤيا" المقبضة، بدأت شيرين تقص رؤياها.
لقد رأت فى المنام انها حامل وتمسح السلم- سلم العمارة التى نسكن فيها- والسلم شبه غارق فى المياه، والبرد قارس، وهى منكفئة تمسح بطريقة الخادمات وليس بطريقة الهوانم اللاتى قد تضطرهن الظروف لتنظيف الارضيات بانفسهن- وزوجها تامر معها يتعاون فى تنظيف السلم، وابنتها ريم تقف ورائها فى ركن وترتدى ذات الفسان الابيض الذى كانت ترتديه بالامس فى حفلة الزفاف.

وعند هذا الحد كانت المياة التى وضعتها على النار لعمل الشاى والنسكافية قد وصلت لدرجة الغليان فبدأت فى صبها فى الفناجين- الاكواب وما يسمى "بالمج" وكل هذه المستحدثات لا تتماشى اصول الضيافة لاسيما عندما يكونون توأما- قاطعت شيرين وهى تحكى لاعرف ان كانت تريد اضافة السكر ام اننا فى موسم الرجيم، الحمد لله كان لدى سكر رجيم فلم اقصر مع ضيفتى توأمتى.

تذكرت شيرين شيئا هاماً، الفستان الابيض الذى كانت تلبسه ابنتها بالامس لابد من ارساله للنظيف، لماذا لم ترسله مع زوجها وهو ذاهب لصلاة الجمعة قبل ان تأتى هى لزيارتى؟ كيف نسيت ذلك؟ واخذت تؤنب نفسها. حولت التخفيف عنها بان الامر ليس عاجل، فليس لدينا حفلات زفاف او خطوبة اليوم او حتى بعد شهر، فاوضحت لى توأمتى العزيزة خطورة الموضوع ، واكدت ان هذا الفستان يجب ان يرسل فوراً للتنظيف دون تأجيل، وانها لو كانت تملك ان تعود الى شقتها قبل ذهابنا للحفل وترسله للتنظيف لفعلت، ولكن ريم لم تكن لترضى ان ترتدى شيئا اخر، حتى هذا الحد لم افهم لماذا؟ ثم كانت الصاعقة، يجب ان يذهب الفستان فورًا للتنظيف لان شيماء ابنة البواب- والتى هى من عمر ريم ثلاث سنوات تقريبا- قد لمسته بل وامسكته حينما كنا ننزل على السلم بالامس، وكان البواب وزوجته وابناؤه ومنهم شيماء يتعاونون فى مسح السلم.

توقفت للحظات ثم تذكرت ان من تتحدث هى شيرين، حاولت كالعادة ان اوضح لها خطأها ولكن بدبلوماسية- تجنبا للمشاكل- فذكرتها بان ما لا يقل عن عشر فتايات من مثل عمر ريم قد امسكوا هذا الفستان بالامس، وشدوه، وان ريم قد وقعت على الارض -بالفستان- حوال ثلاث او اربع مرات، اصرت على الجلوس مع الاطفال امام العروس على السجادة التى زخرفتها اثار احذية المهنئين. لقد عانى الفسان الكثير بالامس، وعومل اسوأ معاملة من ريم وصديقاتها، حتى كانت مفاجأة لى ان تعود به كاملاً "بفيونكته" اكمامه. بعد كل هذا سيرسل للتنظيف لان شيماء "لمسته"، ثم ماذا سيحدث ان ارسل غدًا او بعد غد.

انتفضت شيرين ونظرت نحوى وقد بدت علامات الغضب التى اعرفها تظهر عليها، ثم صاحت: "كيف انتظر للغد؟" "الا يمكن ان ينقل الامراض والحشرات والميكروبات؟" ثم بدأت تكلم نفسها "كيف وضعته فى الدولاب بين بقية فساتين البنت، سأرسل كل الفساتين المعلقة بجواره للتنظيف ايضَا."

شعرت أن الاجواء قد بدأت تغيم، وانه من الافضل تغيير الموضوع، ولم اجد افضل من تذكيرها بالحلم او "الرؤيا"، كان ذلك حلا مناسباً، فقد نست تماماً موضوع الفستان، وبدأت تسألنى عما أرى من معان فيما روت.

حملت صينية الافطار وتوجهت بها الى الصالون كما ارادت ضيفتى، جلسنا وبدأت اتذكر كل ما اعرفه من من المفردات والتفسيرات، "الحمل" "هم"، ولكن ليس من الذكاء ان اقول لها ذلك، خاصة انه احتمال بعيد ان نكون رؤيا، وان كانت كذلك فلن نستطيع تفسيرها فى جميع الاحوال، طرأت لى فكرة ان اذكرها بموقفى مما يراه الانسان فى نومه، فقلت لها انها ربما رأت فى منامها انها حامل لانها تفكر بهذا الامر، فمن المناسب ان تحمل فى الوقت الحالى وقد اتمت ريم الثلاث سنوات. وهنا اقتنعت شيرين بكلامى بعض الشئ، وصرحت لى انها تفكر فى ذلك فلابد ان يكون لريم اخ او اخت، ولكنها كلما تذكرت متاعب الحمل وما يضعه من قيود على حركتها ترددت.

عن غير قصد تذكرت سنية زوجة البواب التى رأيتها تمسح السلم بالامس ونحن ذاهبون للحفل، ودون ان اقصد انطلقت منى دعوة "الله يكون فى عون سنية التى كانت تمسح السلم بالامس وهى فى شهور حملها الاخيرة."
عادت علامات الغضب فارتسمت على وجه شيرين من جديد خاصة وانها قد ضاقت برفض ريم شرب اللبن او اكل البيض، وكأنها تنبهت لامرجلل سألتنى فجأة "ماذا سنفعل مع سنية؟" غضبها لم يكن يوحى بانها تفكر فى اعطائها بعض المال لمواجهة مصاريف المولود القادم فلم افهم، ولكنها اوضحت فى الجملة التالية "كم من مرة نبهت عليها الا تغرق السلم بالماء." لم تعجبها نظراتى البلهاء فاستطردت "كادت قدمى ان تنزلق بالامس وابتل حذاء ريم، ثم ان كثرة المياة ستؤثر على السلالم، الا تتذكرى اننا قد غيرنا احدى درجات مدخل العمارة الشهر الماضى، فك لصقها من المياة ثم انكسرت، ولا شك ان استعمال المياه بهذه الطريقة سيؤثر على عمر العمارة، ولا تنسى انها تمليك فنحن المضرورون، ثم ماذا يحدث لو تسرب الماء داخل الشقق؟ لقد دفعنا الكثير فى الارضيات الخشبية، الا تتذكرى؟"
حالة الوجوم والاستياء التى ارتسمت على وجهى واخذت تتزايد باضطراد دفعت شيرين الى البحث عن سبب اكثر انسانية ووجدته، فختمت خطبتها بتذكيرى بان هذا يعد اهداراً للمياه، ومن شأنه حرمان اناس اخرون- لاتدرى شيرين اين يوجدون على هذا الكوكب- من قطرة الماء. رددت الكلمات كما سمعتها منى، اومن التلفاز، لست ادرى.

حفاظًا على اليوم الجميل الذى بدأ بدقات اكف ريم على بابى- وهو ما اتفائل به كثيرا- انهيت النفاش بوعد بانى سألفت نظر سنية، ولكن على عكس ما توقعت انطلقت شيرين من جديد وصاحت "لقد لفت نظر سنية ومحمود "البواب زوج سنية" عشرات المرات اخرها امس عندما كنا ذاهبون للحفل، الا تتذكرى؟" بالطبع تذكرت لقد كان لفت نظر من قوة عظمى لقوتين يكادا ان يكونا غير موجودتين على الخريطة. قلت ذلك فى نفسى بالطبع- تجنبا للمشاكل.

وللهروب من الموضوع نظرت نحو ريم فوجدتها لم تشرب اللبن، فكانت فرصة، سألتها لماذا لم تشربه، وهنا تنبأت توأمتى الى ان اللبن سادة، وريم تشربه مضافًا اليه نوع معين من الشيكولاته، سألتنى ان كان لدى، هرولت الى المطبخ، وجدت كاكاو كنت قد احضرته لعمل الكعك، اضفته للبن، اقتنعت ريم الى حد ما، وان كانت قد ادركت بعد ان شربت نصف الكوب ان هناك اختلافا فى الطعم. حاولت شيرين اجبارها على شرب النصف الاخر فابتعدت عنها ريم وهى تحمل الكوب بين يديها وترتدى فى ذات الوقت حذاء امها توأمتى الذى تسعد بطرقاته على الارضية الخشبية، كاد اللبن ان ينسكب على الارضية الخشبية- التى دفعنا فيها الكثير كما تقول شيرين.

لم تشأ شيرين توأمتى ان تترك موضوع سنية زوجة البواب او موضوع "اسرة البواب" بشكل عام، فاستطردت "ما رأيك فى الازعاج الذى يسببه اولاد البواب ليل نهار وهم يتسابقون على السلم؟" قالت ذلك وهى ترفع صوتها لاسمعه بعد ان غطت على نقاشنا الموسيقى التصويرية التى كانت تبدعها ريم وهى تجرى والحذاء الكبير يطرق على الارضية الخشبية. منعا للمشاكل ودرءًا للخلافات لم اقل سوى "الاطفال احباب الله، سألفت نظرهم." فانطلقت شيرين من جديد لقد لفت نظرهم ووبختهم وصرخت فى وجوههم بلا فائدة، يجب البحث عن حل اخر.

وجدت انه من الافضل الرجوع الى موضوع الحلم او "من الارحم" فذكرتها به فسألتنى الى اين وصلنا؟ أنا: " الى انك كنت حامل وتمسحين السلم، وتقف خلفك ريم بالفستان الابيض الذى كانت ترتديه بالامس وهناك مياة كثيرة على السلم مثل تلك التى كانت تهدرها سنية زوجة البواب بالامس وهى تمسح السلم." فاستطردت شيرين: " وكنت حافية القدمين وكذلك ريم وكان البرد قارس، ثم رأيت امرأة ترتدى السواد لم ار ملامحها ولكنها كانت طويلة جدا او ضخمة، كانت تنزل من اعلى نحونا وتنظر الينا، كان شكلها مخيفًا، ونظرت الى ريم بالذات فصرخت صرخة مدوية، لقد انتفضت مستيقظة وانا اصرخ، وارتعدت عندما لم اجد ريم بجوارى واخذت انادى عليها وانا لا استطيع الحركة حتى جاء تامر "زوج شيرين توأمتى" وريم، كانت قد استيقطت مع وجلست تلعب بينما يستعد هو للذهاب لصلاة الجمعة. لقد فزعت، لم استرح الا وقد اخذتها بين احضانى." بدا القلق والفزع يالفعل على وجه شيرين، ان مجرد استرجاع هذا الحلم يوترها بل ويفزعها. هدات من روعها، ولكنها ظلت تسأل عن تفسير الحلم، لم اجد مفرًا من قول الحقيقة، وتجنبا للمشاكل فضلت ان المح ولا اصرح. فبداية اكدت لها ان هذا الفزع يدل على ان ذلك مجرد حلم وليس رؤيا، وبالتالى فهو مجرد انعكاس للواقع الذى تحياه، بقايا احداث، بالطبع لا يمكن ان يكون لديها رغبة مكبوتة فى ان تمسح سلم العمارة، ولكن ربما تطوق الى انجاب طفل اخر. ومن جهة اخرى ربما تكون مخاوفها الزائدة على ريم قد جعلتها تراها فى هذا المشهد، ثم اضفت، واحياناً يسبب تأنيب الضمير احلاماً مزعجة، قلتها وانا اخشى من ثورتها، ولكنها لم تثور، يبدو انها كانت تفكر بعمق فى كلماتى، ردت بهدوء وكأنها تحدث نفسها "وانا ما الذى يؤنب ضميرى، لم اقتل احدًا ولا اخون زوجى." ثم صمتت لثوان وقالت انها قد تذكرت شيئا هاما وانه لابد وان يكون مفتاح الحلم "لقد سمعت صوتك فى الحلم وان كنت لم اراكى، لقد كان مدوياً وله صدى، كنت تصيحين "دعيهم يمسحون فى سلام"، كنت تدافعين عنا، لقد فهمت الآن، هذا الحلم نابع من احساسى العميق بانك لا تدافعين عنى "رغبة مكبوتة" فكم تمنيت ان تدافع توأمتى عنى، ولكن دائما تقفين ضدى وبجوار الاخرين، اقربها امس عندما منعتنى عن سنية التى اغرقت السلم بالماء فكدت انزلق، وابنتها التى امسكت فستان ريم."
عند هذا الحد تنهدت، وتأكدت انهم لن يمسحون يوما بسلام.

الأربعاء، 22 أكتوبر 2008

صفحة من مذكرات زوجة

الساعة الواحدة والنصف صباحًا، ما اجمل السكون، كم اشتقت اليكى اوراقى، ثلاثة ايام دون ان نلتقى.

اليوم الاول: الاحد 12/10
عاد فى الثانية ظهرا. كانت نورا فى المدرسة، ونور فى فراشه يعانى البرد، وكنت انا بالمطبخ.
احسست بالمفتاح فى الباب، اقتربت، اطمئننت عندما رأيته ببدلته العسكرية.
عدت للمطبخ.
لم اصافحه، فقد كان يحمل بيمينه الحقيبة وبيدى السكين.

تناول قهوة وخبزًا وجبن، وهمس فى جواله ما يزيد عن النصف ساعة، فتذكرت مكالماتنا المقتضبة.
عانقته نورا عندما عادت، فحملها ودار بها، طارت ضفائرها وتعالت ضحكاتها، اقتنصت الفرصة وصوبت نحوه نظرة خاطفة.

فى الثالثة والنصف تناولنا الغداء، رن جواله ثلاث مرات، واستقبل ثلاث رسائل، تظاهرت بالغفلة، والانشغال باطعام نورا.

خرج فى الرابعة والنصف بعد ان اخرج كل ملابسه من الدولاب ليختار ما يرتديه.
عاد فى التاسعة، اطمئنت عليه فى التاسعة والربع، واشتاق اليها فى العاشرة.
لم تضحكنى مسرحيتى المفضلة.
ضاقت بنا غرفة المعيشة، انسحبت الى غرفة نومى التى كانت يوما غرفتنا، ونام هو على الاريكة "عن غير قصد."

فى اليوم الثانى: الاثنين 13/10
ايقظته قبلات نورا التى حرضتها على طبعها على وجنتيه وهو نائم، عله يرتدع.
قضينا النهار بمستشفى الجيش بعد ان ادعيت ان حرارة نور قد وصلت الى التاسعة والثلاثين.
شعرت بالحرج والطبيب يخبره ان الولد بخير وحرارته طبيعية، ويمكن ان يذهب للحضانة فى الغد.
لم ينهرنى على فعلتى، واكتفى بتأنيبى لطهى البطاطس يوم اجازته، الم يكن يعشقها من قبل؟

خرج فى موعد اليوم السابق، ولكنه لم يعد فى التاسعة.
عندما عاد كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشر بقليل،تظاهرت بالنوم،
بدل ملابسه، وجلس فى غرفة الابناء يتأمل وجوههما على ضوء المصباح الصغير.
رن جواله انسحب خارجًا، وترك الصغار.
رنة تجوال، همس، ضحكات مكتومة، وصمت طويل.
تكرر هذا المسمح عدد لانهائى من المرات.

اليوم الثالث: الثلاثاء 14/ 10
فى الصباح لم تفلح صيحات الابناء فى ايقاظه،
فى الحادية عشر اتصلت اخته الكبرى تسأل عن نور وصحته، فادركت انه كان عندها بالامس، اطمئننت قليلا، فمازالت الامور تحت السيطرة.
ارادت ان تقول شيئا ولكنها لم تفعل، ولم اقل انا ايضا.

صحى، رتب الاريكة، واعد قهوته وافطاره.
قضى وقتًا اطول معى بالمطبخ، تحين الفرص لكى يبوح، ولكنى لن اسمح له بالاعتراف.
ارتدى بدلته العسكرية، اعد الحقيبة، واتجه للباب.

لم اصافحه فقد كان يحمل بيمينه الحقيبة، وفى يدى السكين.

الثلاثاء، 21 أكتوبر 2008

لماذا يركب هؤلاء الاتوبيس؟


لماذا يركب "هؤلاء" الاتوبيس؟

سؤال طرحه مشمش ابن طنط سميرة جارتنا "سابقًا" - أى قبل بناء البرج الملاصق لعمارتنا، والذى انتقلت اليه، والذى جعل عمارتنا تتحول من عروس الشارع الى قزم الشارع، او قنفد الشارع.

المهم، وجدت طنط سميرة فى السؤال فرصة جيدة لغرس قيمتى العمل والعمل لدى مشمش، ذو السبع سنوات، فاجابت على الفور يركب "هؤلاء" الاتوبيس لانهم ليسوا مثل ابيك الذى ذاكر واجتهد منذ ان كان صغيرًا مثلك، ومن ثم اصبح محاميًا يمتلك سيارة- اعتقد انها كانت 128 حمراء أو ماشابه- واستطردت طنط سميرة مؤكدة ان هناك طريقين فى الحياة يختار كل انسان بكامل ارادته ايهما يسلك: طريق المذاكرة والاجتهاد ومن ثم النجاح وركوب السيارات، وطريق الكسل الذى يؤدى الى الفشل وينتهى بصاحبه الى ركوب الاتوبيس، ليصبح واحدًا من "هؤلاء".

حكت لنا طنط سميرة هذه الحكاية فى احدى ليالى الصيف- لم يكن يتعدى عمرى فى ذلك الوقت العشر سنوات- واختتمتها برد مشمش الذى ارتعد من هذا المصير - فالاتوبيس فى ذلك الوقت كان يتطلب مهارة حفظ التوازن فى حالة ركوبه وقوفًا، فاذا افتقد الراكب تلك المهارة، وتصادف وقوفه وحده بالاتوبيس او مع عدد قليل من الركاب، وهو ما يحدث كثيرًا، اصبح عرضة للانزلاق فى فضاء الاتوبيس، وربما انتقل دون ارادته من شمال الكمسرى الى يمين السائق هرولة، أو جريًا، أو زحفًا بتعًا لمهارته وقدرته على ضبط النفس- والتفت مشمش الى والده يسأله ان كان سيسمح له بالركوب معه بسيارته حال فشله فى الدراسة، ضحكنا على الترفة لاسيما واننا كنا نمثل ارستقراطية العمارة، الاسرتين الوحيدتين من بين اربعة عشر اسرة اللتان يمتلكا سيارة خاصة.

لا اعرف ان كانت الحكاية قد اثرت فى مشمش واتت ثمارها المرجوة ام لا، ولكن بلا شك- وللاسف- اثرت فى، بل وامنت بها، فهى منطقية، وتتماشى مع ما هو مكتوب على ظهر الكراس واوراق النتيجة وكتاب القراءة "من جد وجد ومن زرع حصد".

مرت ثمانية اعوام، لم اركب الاتوبيس خلالها فقد كان لدينا سيارة- فيات ايضًا- اجتهدت خلال هذه السنوات، كنت دائمًا الاولى على المدرسة، لم اكن احلم بامتلاك سيارة، ولم اكن اخشى ان اصبح من "هؤلاء" الذين يركبون الاتوبيس، لقد اردت فقط ان اكون فى جانب المجتهدين الاخيار، لا من الكسالى المشاكسين الذين سيعاقبهم الله بركوب الاتوبيس فى الدنيا، والخزى امامه يوم القيامة، يوم يسألهم عن وقتهم فيا اضاعوه.

حصلت على الثانوية العامة بمجموع كبير، واصبح الطريق ممهدًا للاتحاق باحسن كلية، هكذا كانوا يلقبونها.
انهالت الهدايا والملابس الجديدة، ولاحت فى الافق ابواب الجامعة، ودقات ساعتها الكبيرة، والمستقبل المزدهر.
ولكن ليس بالمجموع وحده يذهب المرء للجامعة، فلابد من سيارة.

رفض طلب امتلاك سيارة، ورفض طلب قيادة سيارة الاسرة " فى هذه السن الصغيرة - 18 سنة".
انعقد مجلس الاسرة الصغيرة ونوقشت البدائل: سيارات الاجرة تخطف الفتايات والسيدات- هكذا اصرت أمى ولم تركبها وحدها قط- المترو والميكروباص اختراعان لم يكن سكان القاهرة يعرفونهما فى ذلك الوقت - بداية التسعينات.لم يبقى سوى الاتوبيس.

بذل مجلس الاسرة الصغيرة جل جهده لاقناعى بان ركوب الاتوبيس شرف لكل مواطن فلم يفلح الامر، اقسم المجلس انه ليس كل الاتوبيسات على قدم المساواة، فبعضها خال تقريبًا من الركاب، أى بمثابة سيارة خاصة ولكنها اكبر. واضاف المجلس ان بعض خطوط الاتوبيس لا يركبها تقريبًا سوى طلبة وطالبات الجامعات، ومن ذلك الاتوبيس المرشح لى، فبدأت اقتنع.

اجريت التجارب الاولية، مشينا خمس دقائق حتى وصلنا الى موقف الاتوبيس، وجدنا عدة اتوبيسات منتظرة راكبيها، استقللنا الاول، بدأ السير وقد امتلأ ما يزيد عن نصف مقاعدة بقليل، جميعهم تقريبًا من الزملاء والزميلات. تقبلت الفكرة بصدر رحب بعد ان اقتنعت بان استقلال الاتوبيس هو مرحلة فى حياة كل انسان مكافح، وان من يذهب لكليته بالاتوبيس افضل ممن يذهب بسيارة اشتراها له ابواه. كانت مازالت بالاجواء بعض بقايا الاشتراكية، استنشقتها فسارت الامور.

مرت سنوات الدراسة على اكمل وجه، تخرجت بتفوق، والتحقت فى ذات العام بوظيفة محترمة بدون واسطة، وتطلعت الانظار للنجاح المبهر.

مرت خمسة عشر عاما، رأيت الاتوبيس، تأملته، كيف لم الحظه من قبل، لقد تغير كثيرًا، ليس فقط اللون ولكن كل شئ فيه قد تغير.
لقد اصبح مائلاً رغم ان ركابه على الجانبين.
واختفت ابوابه التى اتذكر انها كانت تغلق وتفتح فى المحطات.
وربما اختفى السلم ايضًا، فلا احد يعرف ان كان مازال موجودا تحت الكتلة البشرية النافرة من الباب ام لا.
واختفت كل الفراغات التى اذكر انها كانت موجودة داخل الاتوبيس.
ولابد وانه قد اختفت معها كل معالم الانسانية والشرف.
لم يبقى سوى البشر.

قفز الى ذهنى فجأة سؤال مشمش "لماذا يركب "هؤلاء" الاتوبيس؟"
واجابة طنط سميرة.

ولكن كيف يكون هؤلاء كسالى مستهترون؟
ان ركوبهم الاتوبيس بهذا الاصرار هو فى حد ذاته كفاح ونضال يفوق الجد والاجتهاد اللذان خبرتهما طوال حياتى.
كيف يتصور ان يكون اى من هؤلاء تلميذًا بليدًا، او عامل كسول؟
حتى وان كان كذلك يومًا، الا يكفر ركوبه الاتوبيس عشرة ايام او عشرين يومًا عن خطاياه؟
هل الرسوب فى الاعدادية مثلا سبب كاف للتعذيب مدى الحياة؟

انفرجت الضائقة المرورية، تحرك الاتوبيس امامنا ببطء، همس والدى "الحمد لله".
انتبهت الى انى داخل السيارة بجوار والدى،
وانتبهت ايضًا الى انى بعد كل هذا الطريق الطويل الذى قطعته بمتهى الجد والاجتهاد - 9 سنوات تعليم اساسى، 3 سنوات تعليم ثانوى، 4 سنوات تعليم جامعى،و 15 عامًا من العمل الدؤوب والاداء المتميز- بعد كل هذا لا املك سيارة،
ومن لا يملك سيارة يركب الاتوبيس مع "هؤلاء"

أما لماذا لم اركب الاتوبيس مع "هولاء" "الزملاء" فلان والدى- جزاه الله عنا خير الجزاء- قد سمح لى بركوب سيارته بعد أن "نجحت" أو "فشلت" -لا أعرف بالضبط- فى الحياة.

حبيبتى من تكون؟



على ذات الطاولة جلس رجل الأعمال م.م مع سكرتيرتة نيرمين، بعد انتهاء عشاء العمل وابرام احدى صفقاته الناجحة.

تهنئة نيرمين، وتهنئ نفسها بعمولتها التى يمنحها اياها المهندس م.م فى صورة هدية ذهبية، كم هو رقيق.

ولكن لماذا حزين؟ يضحك وعينيه حزينة تبحث عن شئ ما، او عن شخص ما.

لم تجرؤ نيرمين على السؤال يومًا، فهو حريص على الحفاظ على مسافة كافية بينهما، مسافة تمنعها وبقوة من مجرد تخيل اعجابه بها، كما يحدث فى المسلسلات، أو حتى مع صديقاتها اللاتى يعملن كسكرتيرات أو مديرات مكاتب، رغم انها تفوق الكثيرات منهمن جمال وذكاء.

نفس المكان دائماً، ونفس الطاولة، رغم اختلاف الضيوف والوفود والشركاء مابين امريكيين واوروبيين وعرب واحيانًا يابانيين وصينيين.
يختار الشركاء الموعد، وينفرد هو بتحديد المكان ولا يقبل تغييره.

اشارت نيرمين من قبل الى ان حديقة الشاى بسميراميس مكان انيق حقًا، والبيانو يضفى جوًا من الشاعرية والفخامة فى ذات الوقت، ولكن هناك اماكن انسب، فلاشك ان الضيوف الصينيون سيشعرون بالتقدير اذا تناولوا العشاء فى مطعم صينى، والامريكييون لابد وسيبهرهم سحر الشرق وجمال النيل فى المطاعم العائمة.

لم يلق هذا الحديث استحسانًا لدى الباشمهندس، وانهاه بكلمة واحدة "حديقة الشاى بسميراميس، واتركى لهم تحديد الساعة."
رغم حزن عينيه، ومهارته فى اخفاء مشاعره يسهل اكتشاف شغفه بالمكان.

بعد انصراف الضيوف يطلب نسكافيه له ولنيرمين.
يهنئان بعضهما البعض بالصفقة، وقد ينظر فى بعض الاوراق للتأكد من امضاء هنا أو شرط هناك، ثم يغوص فى كرسيه سارحًا فى الفضاء.
تبقى نيرمين او ترحل لا يهم، المهم أن يظل البيانو.

تشعر وكأن هناك لغة بينهما، انه لا يستمع اليه فقط، ولكن يقص عليه اخباره ويسترجع معه الذكريات، هكذا تشعر نيرمين دومًا، كما تشعر بغريزة الانثى ان هناك امرأة اخرى فى المكان.
رحلت وتركت عبيرها وشذاها وكلمات بعثرتها الايام، وظلت البسمات ينسجها البيانو فى كل مرة يلقى فيها عاشقة.
هل كانت عازفة البيانو؟ هل كانت تعمل هنا؟
لابد وان هذه طولتهما المعتادة ومحل اللقاء.
لابد وانه قد مر على ذلك سنوات طوال.
كل هذه السنوات ومازال يذكرها؟
وكل هذا النجاح وما زال يشعر بالفشل؟

ولكن لماذا فشلت هذه القصة التى لابد وانها قد كانت غاية فى الرومانسية؟
ربما كان فقيرا لم يستطع الزواج منها، رفضه اهلها ثم صنع كل هذا النجاح، وكل هذه الملايين.
مال ونفوذ، ولا وريث.
لا زوجة ولا ولد.
لماذا لا يتزوج، انه لم يتخطى الاربعين الا بسنوات معدودة؟
ألهذا المدى يكون الحب؟

انتهت اغنية عبد الحليم "حبيبتى من تكون؟"
وانتبهت علياء بعد ان اجاب خيالها على سؤالها المتكرر "كيف حال م.م الآن؟"
كيف هو بعد عشر سنوات من اللقاء الاول والوحيد بحديقة الشاى؟

ارضاها الخيال حتى اصبحت تضيف فصولاً جديدة للقصة الجميلة كل بضعة ايام او اسابيع، حسب الظروف والاغنيات.

فعلى انغام اغنية هانى شاكر"معقول نتقابل تانى؟" تخيلت يومًا انهما تقابلا فى ذات المكان، ولكن للاسف كانت قد تزوجت، وكم آلمها حزنه، وكم اصبحت هى حائرة بين الزوج والحبيب.
فى كل مرة تنتهى الاغنية وينتهى الحلم ذو الفصول اللانهائية.

ولكن هل هذا هو ما حد ث بالفعل؟
فى الواقع لا شئ منه قد حدث على الاطلاق.

فالمهندس م.م قد سافر الى الرياض بعد ايام من رفض العائلة الكريمة له، وظل يعمل هناك ليل نهار، لا ليعود من جديد، ولكن ربما ليملك المال الذى هزمه يومًا، وربما بحكم العادة.
الحياة هناك مملة، اقترح عليه احد الزملاء الزواج من احدى قريباته.
عائلة طيبة يدركون حقائق الحياة.
غضو الطرف عن الشقة والجهاز.
بعد عام كان متزوجا.
وبعد عام اخر اصبح متزوج ويعول.

لم يصبح رجل اعمال، ولا يملك الملايين، وليس لديه سكرتيرة.
وفى المرات القليلة التى زار فيها مصر لم يدخل سميراميس، ليس فقط لانه لم يتذكر علياء، ولكن لانه قد اصبح احد ضحايا الغربة.
يكسب الكثير، ويصرف القليل، ويدخر للاجيال القادمة.
ربما يكونون اسعد حظًا.