حلم توأمتى
ايقظنى جرس الباب، وانبئتنى طرقات الاكف الصغيرة عمن بالخارج، انها توأمتى شيرين وابنتها ريم، كم افتقد تلك الصغيرة، رغم انى لم اتركها الا منذ ساعات قليلة، فقد حضرنا معا زفاف ابنه عمى الليلة الماضية، ربما لذلك تأخرت فى الاستيقاظ، فالنهار قد انتصف.
فتحت الباب وحملت ريم التى تعلقت برقبتى، ولم تترك لى فرصة الترحيب بتوأمتى كما يجب- فهى ترى ان كونها توأمتى لا يعفينى من الترحيب بها كضيفة.
لم تنفك ايد ريم من حول رقبتى الا بعد ان كنت قد جلست على احد مقاعد الصالون، فغرف المعيشة وما شابه لا تصلح لاستقبال الضيوف- حتى وان كانوا توائم- هكذا ترى شيرين.
تعجبت من هذه الزيارة الصباحية المبكرة بعض الشئ لاسيما وقد كنا معا الى ما بعد منتصف الليل، ولكن لم تترك لى شيرين مجالا للتخمين، فقد بادرتنى بقولها انها قد جاءت الآن مسرعة لتقص على حلما رأته الليلة الماضية، علنا نصل الى تفسيره. بالطبع سألتها لماذا لم تحكيه لوالدتنا، فشيرين تقتنع بتفسيراتها، وكم من المرات رأيتهما يقضيان الساعات ما بين كتابى ابن سيرين ومختار الصحاح، فالمعجم ضرورى، حيث ان اغلب الالفاظ الموجود فى كتاب تفسير الاحلام لابن سيرين "عربى قديم"، وتحتاج الى معجم، او كما تقول شيرين "dictionary" "عربى- عربى".
المهم، ردت شيرين بانه لم يفوتها ذلك، واتصلت بالفعل بوالدتنا لتحكى لها الحلم، ولكنها رفضت سماعه عندما عرفت انه مقبض، وليس مفرح، وذكرتها بوصية ابن سيرين وكبار المفسرين بعدم قص الرؤيا المقبضة حتى لا تتحقق.
رغم ايمانى بالرؤيا، وبانها كثيرا ما تكون بشاره او تنبيهاً من الرحمن، الا اننى ادرك ايضاً ان كثير ما نراه فى نومنا لا يعد وان يكون بقايا للاحداث اليومية، رغبات مكبوتة، خلافات لم تسو، تانيب ضمير، وما شابه. ولكن فى كل مرة كنت ادلى بهذا الرأى كانت امى وشيرين توأمتى يعترضان بشدة، وتؤكد كل منهما ان ما رأته هو رؤيا مكتملة الجوانب والاركان والشروط، وبها تحذيرات واشارات وبشارات، فاتركهما مع ابن سيرين ومختار الصحاح.
اليوم كانت حالة شيرين تحول بينى وبين البوح برأى الذى طالما كررته على مسامعها من قبل، كانت قلقة، ووجهها شاحب، ومضطربة، وقد انتقل الى القلق بعدما اخبرتنى انها قد استيقطت وهى تصرخ من هول ما رأت فى منامها،فقد رأت ريم ابنتها تصرخ.
فى محاولة منى لتهدئة روعها بدأت فى ترجمة المفردات وذكرتها بان "البنت" فى الحلم "دنيا"، ولكنى لم افلح، فقد بدى واضحاً ان قلق شيرين يتمحور حول تفسير "السلم"، وبخبرتى المتواضعة فى التفسيراخبرتها ان صعود السلم هو صعود فى الحياة و"هبوطه لا خير فيه" كما يقول كبار المفسرين. ولكنها فاجأتنى -و الحقيقة كتمت ضحكى- عندما سألت عن تفسير "مسح السلم" اى تنظيفه بالماء والصابون. لم تكن حالة شيرين تسمح بالفكاهة- فضلاً كونها هى نفسها لا تسمح بالفكاهة حتى فى المواسم والاعياد.
تنبهت بعد مجيئها بعشر دقائق اننى لم اقدم لها شيئا- ولو تطور الامر ومرت ربع الساعة سيعد ذلك من وجهة نظر شيرين استهزاء بها، وعدم تقدير للمجهود الذى بذلته فى انتقالها من شقتها فى الدور الثانى الى شقتى فى الدور الثالث- انزلت ريم الى الارض، وانتفضت واقفة اسألها- بمنتهى الذوق الرسمى- اتفضل الشاى ام القهوة، وهل احضر لريم لبناً ام شئ اخر. تلقيت الطلبات وانطلقت الى المطبخ، وضعت الماء على النار وكذلك اللبن، وبدأت فى اخراج انواع الجبن المتوفرة لدينا من الثلاجة ووضعها على صينية كبيرة، وكذلك البيض المسلوق، ولم انسى ان ادفء البيض بوضعه فى قليل من الماء الساخن، فشيرين لا تاكله باردًا، ولم انسى الفاكهة، وان كنت لم اجد الا التفاح، فاخذت ادعو الله الا ترى توأمتى فى ذلك تقصيرًا او عدم اهتمام.
وبينما اربت الصينية، وجدت شيرين وقد تركت الصالون وجاءت الى المطبخ على غير عادتها، وقفت عند باب المطبخ مؤكدة ان الافطار والشاى والقهوة وكل ذلك ليس هامًا الآن، المهم تفسير "الرؤيا"، لقد قررت شيرين انها "رؤيا" ومن ثم وجب التفسير.
وبعد ان اقسمت لها اننى لن اخبر والدتنا بانها قد حكت "الرؤيا" المقبضة، بدأت شيرين تقص رؤياها.
لقد رأت فى المنام انها حامل وتمسح السلم- سلم العمارة التى نسكن فيها- والسلم شبه غارق فى المياه، والبرد قارس، وهى منكفئة تمسح بطريقة الخادمات وليس بطريقة الهوانم اللاتى قد تضطرهن الظروف لتنظيف الارضيات بانفسهن- وزوجها تامر معها يتعاون فى تنظيف السلم، وابنتها ريم تقف ورائها فى ركن وترتدى ذات الفسان الابيض الذى كانت ترتديه بالامس فى حفلة الزفاف.
وعند هذا الحد كانت المياة التى وضعتها على النار لعمل الشاى والنسكافية قد وصلت لدرجة الغليان فبدأت فى صبها فى الفناجين- الاكواب وما يسمى "بالمج" وكل هذه المستحدثات لا تتماشى اصول الضيافة لاسيما عندما يكونون توأما- قاطعت شيرين وهى تحكى لاعرف ان كانت تريد اضافة السكر ام اننا فى موسم الرجيم، الحمد لله كان لدى سكر رجيم فلم اقصر مع ضيفتى توأمتى.
تذكرت شيرين شيئا هاماً، الفستان الابيض الذى كانت تلبسه ابنتها بالامس لابد من ارساله للنظيف، لماذا لم ترسله مع زوجها وهو ذاهب لصلاة الجمعة قبل ان تأتى هى لزيارتى؟ كيف نسيت ذلك؟ واخذت تؤنب نفسها. حولت التخفيف عنها بان الامر ليس عاجل، فليس لدينا حفلات زفاف او خطوبة اليوم او حتى بعد شهر، فاوضحت لى توأمتى العزيزة خطورة الموضوع ، واكدت ان هذا الفستان يجب ان يرسل فوراً للتنظيف دون تأجيل، وانها لو كانت تملك ان تعود الى شقتها قبل ذهابنا للحفل وترسله للتنظيف لفعلت، ولكن ريم لم تكن لترضى ان ترتدى شيئا اخر، حتى هذا الحد لم افهم لماذا؟ ثم كانت الصاعقة، يجب ان يذهب الفستان فورًا للتنظيف لان شيماء ابنة البواب- والتى هى من عمر ريم ثلاث سنوات تقريبا- قد لمسته بل وامسكته حينما كنا ننزل على السلم بالامس، وكان البواب وزوجته وابناؤه ومنهم شيماء يتعاونون فى مسح السلم.
توقفت للحظات ثم تذكرت ان من تتحدث هى شيرين، حاولت كالعادة ان اوضح لها خطأها ولكن بدبلوماسية- تجنبا للمشاكل- فذكرتها بان ما لا يقل عن عشر فتايات من مثل عمر ريم قد امسكوا هذا الفستان بالامس، وشدوه، وان ريم قد وقعت على الارض -بالفستان- حوال ثلاث او اربع مرات، اصرت على الجلوس مع الاطفال امام العروس على السجادة التى زخرفتها اثار احذية المهنئين. لقد عانى الفسان الكثير بالامس، وعومل اسوأ معاملة من ريم وصديقاتها، حتى كانت مفاجأة لى ان تعود به كاملاً "بفيونكته" اكمامه. بعد كل هذا سيرسل للتنظيف لان شيماء "لمسته"، ثم ماذا سيحدث ان ارسل غدًا او بعد غد.
انتفضت شيرين ونظرت نحوى وقد بدت علامات الغضب التى اعرفها تظهر عليها، ثم صاحت: "كيف انتظر للغد؟" "الا يمكن ان ينقل الامراض والحشرات والميكروبات؟" ثم بدأت تكلم نفسها "كيف وضعته فى الدولاب بين بقية فساتين البنت، سأرسل كل الفساتين المعلقة بجواره للتنظيف ايضَا."
شعرت أن الاجواء قد بدأت تغيم، وانه من الافضل تغيير الموضوع، ولم اجد افضل من تذكيرها بالحلم او "الرؤيا"، كان ذلك حلا مناسباً، فقد نست تماماً موضوع الفستان، وبدأت تسألنى عما أرى من معان فيما روت.
حملت صينية الافطار وتوجهت بها الى الصالون كما ارادت ضيفتى، جلسنا وبدأت اتذكر كل ما اعرفه من من المفردات والتفسيرات، "الحمل" "هم"، ولكن ليس من الذكاء ان اقول لها ذلك، خاصة انه احتمال بعيد ان نكون رؤيا، وان كانت كذلك فلن نستطيع تفسيرها فى جميع الاحوال، طرأت لى فكرة ان اذكرها بموقفى مما يراه الانسان فى نومه، فقلت لها انها ربما رأت فى منامها انها حامل لانها تفكر بهذا الامر، فمن المناسب ان تحمل فى الوقت الحالى وقد اتمت ريم الثلاث سنوات. وهنا اقتنعت شيرين بكلامى بعض الشئ، وصرحت لى انها تفكر فى ذلك فلابد ان يكون لريم اخ او اخت، ولكنها كلما تذكرت متاعب الحمل وما يضعه من قيود على حركتها ترددت.
عن غير قصد تذكرت سنية زوجة البواب التى رأيتها تمسح السلم بالامس ونحن ذاهبون للحفل، ودون ان اقصد انطلقت منى دعوة "الله يكون فى عون سنية التى كانت تمسح السلم بالامس وهى فى شهور حملها الاخيرة."
عادت علامات الغضب فارتسمت على وجه شيرين من جديد خاصة وانها قد ضاقت برفض ريم شرب اللبن او اكل البيض، وكأنها تنبهت لامرجلل سألتنى فجأة "ماذا سنفعل مع سنية؟" غضبها لم يكن يوحى بانها تفكر فى اعطائها بعض المال لمواجهة مصاريف المولود القادم فلم افهم، ولكنها اوضحت فى الجملة التالية "كم من مرة نبهت عليها الا تغرق السلم بالماء." لم تعجبها نظراتى البلهاء فاستطردت "كادت قدمى ان تنزلق بالامس وابتل حذاء ريم، ثم ان كثرة المياة ستؤثر على السلالم، الا تتذكرى اننا قد غيرنا احدى درجات مدخل العمارة الشهر الماضى، فك لصقها من المياة ثم انكسرت، ولا شك ان استعمال المياه بهذه الطريقة سيؤثر على عمر العمارة، ولا تنسى انها تمليك فنحن المضرورون، ثم ماذا يحدث لو تسرب الماء داخل الشقق؟ لقد دفعنا الكثير فى الارضيات الخشبية، الا تتذكرى؟"
حالة الوجوم والاستياء التى ارتسمت على وجهى واخذت تتزايد باضطراد دفعت شيرين الى البحث عن سبب اكثر انسانية ووجدته، فختمت خطبتها بتذكيرى بان هذا يعد اهداراً للمياه، ومن شأنه حرمان اناس اخرون- لاتدرى شيرين اين يوجدون على هذا الكوكب- من قطرة الماء. رددت الكلمات كما سمعتها منى، اومن التلفاز، لست ادرى.
حفاظًا على اليوم الجميل الذى بدأ بدقات اكف ريم على بابى- وهو ما اتفائل به كثيرا- انهيت النفاش بوعد بانى سألفت نظر سنية، ولكن على عكس ما توقعت انطلقت شيرين من جديد وصاحت "لقد لفت نظر سنية ومحمود "البواب زوج سنية" عشرات المرات اخرها امس عندما كنا ذاهبون للحفل، الا تتذكرى؟" بالطبع تذكرت لقد كان لفت نظر من قوة عظمى لقوتين يكادا ان يكونا غير موجودتين على الخريطة. قلت ذلك فى نفسى بالطبع- تجنبا للمشاكل.
وللهروب من الموضوع نظرت نحو ريم فوجدتها لم تشرب اللبن، فكانت فرصة، سألتها لماذا لم تشربه، وهنا تنبأت توأمتى الى ان اللبن سادة، وريم تشربه مضافًا اليه نوع معين من الشيكولاته، سألتنى ان كان لدى، هرولت الى المطبخ، وجدت كاكاو كنت قد احضرته لعمل الكعك، اضفته للبن، اقتنعت ريم الى حد ما، وان كانت قد ادركت بعد ان شربت نصف الكوب ان هناك اختلافا فى الطعم. حاولت شيرين اجبارها على شرب النصف الاخر فابتعدت عنها ريم وهى تحمل الكوب بين يديها وترتدى فى ذات الوقت حذاء امها توأمتى الذى تسعد بطرقاته على الارضية الخشبية، كاد اللبن ان ينسكب على الارضية الخشبية- التى دفعنا فيها الكثير كما تقول شيرين.
لم تشأ شيرين توأمتى ان تترك موضوع سنية زوجة البواب او موضوع "اسرة البواب" بشكل عام، فاستطردت "ما رأيك فى الازعاج الذى يسببه اولاد البواب ليل نهار وهم يتسابقون على السلم؟" قالت ذلك وهى ترفع صوتها لاسمعه بعد ان غطت على نقاشنا الموسيقى التصويرية التى كانت تبدعها ريم وهى تجرى والحذاء الكبير يطرق على الارضية الخشبية. منعا للمشاكل ودرءًا للخلافات لم اقل سوى "الاطفال احباب الله، سألفت نظرهم." فانطلقت شيرين من جديد لقد لفت نظرهم ووبختهم وصرخت فى وجوههم بلا فائدة، يجب البحث عن حل اخر.
وجدت انه من الافضل الرجوع الى موضوع الحلم او "من الارحم" فذكرتها به فسألتنى الى اين وصلنا؟ أنا: " الى انك كنت حامل وتمسحين السلم، وتقف خلفك ريم بالفستان الابيض الذى كانت ترتديه بالامس وهناك مياة كثيرة على السلم مثل تلك التى كانت تهدرها سنية زوجة البواب بالامس وهى تمسح السلم." فاستطردت شيرين: " وكنت حافية القدمين وكذلك ريم وكان البرد قارس، ثم رأيت امرأة ترتدى السواد لم ار ملامحها ولكنها كانت طويلة جدا او ضخمة، كانت تنزل من اعلى نحونا وتنظر الينا، كان شكلها مخيفًا، ونظرت الى ريم بالذات فصرخت صرخة مدوية، لقد انتفضت مستيقظة وانا اصرخ، وارتعدت عندما لم اجد ريم بجوارى واخذت انادى عليها وانا لا استطيع الحركة حتى جاء تامر "زوج شيرين توأمتى" وريم، كانت قد استيقطت مع وجلست تلعب بينما يستعد هو للذهاب لصلاة الجمعة. لقد فزعت، لم استرح الا وقد اخذتها بين احضانى." بدا القلق والفزع يالفعل على وجه شيرين، ان مجرد استرجاع هذا الحلم يوترها بل ويفزعها. هدات من روعها، ولكنها ظلت تسأل عن تفسير الحلم، لم اجد مفرًا من قول الحقيقة، وتجنبا للمشاكل فضلت ان المح ولا اصرح. فبداية اكدت لها ان هذا الفزع يدل على ان ذلك مجرد حلم وليس رؤيا، وبالتالى فهو مجرد انعكاس للواقع الذى تحياه، بقايا احداث، بالطبع لا يمكن ان يكون لديها رغبة مكبوتة فى ان تمسح سلم العمارة، ولكن ربما تطوق الى انجاب طفل اخر. ومن جهة اخرى ربما تكون مخاوفها الزائدة على ريم قد جعلتها تراها فى هذا المشهد، ثم اضفت، واحياناً يسبب تأنيب الضمير احلاماً مزعجة، قلتها وانا اخشى من ثورتها، ولكنها لم تثور، يبدو انها كانت تفكر بعمق فى كلماتى، ردت بهدوء وكأنها تحدث نفسها "وانا ما الذى يؤنب ضميرى، لم اقتل احدًا ولا اخون زوجى." ثم صمتت لثوان وقالت انها قد تذكرت شيئا هاما وانه لابد وان يكون مفتاح الحلم "لقد سمعت صوتك فى الحلم وان كنت لم اراكى، لقد كان مدوياً وله صدى، كنت تصيحين "دعيهم يمسحون فى سلام"، كنت تدافعين عنا، لقد فهمت الآن، هذا الحلم نابع من احساسى العميق بانك لا تدافعين عنى "رغبة مكبوتة" فكم تمنيت ان تدافع توأمتى عنى، ولكن دائما تقفين ضدى وبجوار الاخرين، اقربها امس عندما منعتنى عن سنية التى اغرقت السلم بالماء فكدت انزلق، وابنتها التى امسكت فستان ريم."
عند هذا الحد تنهدت، وتأكدت انهم لن يمسحون يوما بسلام.